مزبحة هيرودوس لقتل النبى عيسى
مزبحة هيرودوس لقتل النبى عيسى
رغم أن هذا الكتاب يهتم بشكل رئيس ببعض مراحل تاريخ موسى وبني إسرائيل فإنه ليس بخروج عن موضوع الكتاب أن نناقش أجزاءا معيّنة من رواية العهد الجديد لقصة عيسى، ذلك أن دراسة الروايتين القرآنيتين لولادة موسى وعيسى ومقارنتهما مع نظيرتيهما في العهدين القديم والجديد، على التوالي، يكشف عن إرتباط مهم بين روايتي العهدين القديم والجديد. يبيّن البحث في هذا الموضوع بأن رواية العهد الجديد عن مذبحة هيرودس للأولاد الصغار في بيت لحم وما جاورها من المناطق وتفاصيل أخرى ذات صلة قد نُقِلت في الواقع من قصة ولادة موسى في سِفر الخروج، ولذلك فهي ليست بوقائع تاريخيّة.
يروي كتاب مَتّى في العهد الجديد الأحداث التي حصلت بعد ولادة عيسى مباشرة كما يلي:
ولما وُلِد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودس الملك إذا مجوس من المشرق قد جاءوا الى اورشليم قائلين أين هو المولود ملك اليهود. فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له. فلما سمع هيرودس الملك أضطرب وجيمع اورشليم معه. فجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسألهم أين يولد المسيح. فقالوا له في بيت لحم اليهودية. لأنه هكذا مكتوب بالنبي. وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا. لأن منك يخرج مدبّر يرعى شعبي اسرائيل.
حينئذ دعا هيرودس المجوس سرا وتحقّق منهم زمان النجم الذي ظهر. ثم أرسلهم الى بيت لحم وقال أذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي. ومتى وجدتموه فأخبروني لكي آتي أنا ايضا واسجد له. فلما سمعوا من الملك ذهبوا واذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدّمهم حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي. فلما رأوا النجم فرحوا فرحا عظيما جدا. وأتوا الى البيت ورأوا الصبي مع مريم أمه. فخرّوا وسجدوا له. ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا ذهبا ولبانا ومُرا. ثم إذ أُوحي اليهم في حلم أن لا يرجعوا الى هيرودس أنصرفوا في طريق اخرى إلى كورتهم.
وبعدما انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا قم وخذ الصبي وأمه وأهرب الى مصر وكن هناك حتى اقول لك. لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه. فقام واخذ الصبي وأمه ليلا وانصرف الى مصر. وكان هنالك الى وفاة هيرودس. لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل من مصر دعوت ابني.
حينئذ لما رأى هيرودس أن المجوس سخروا به غضب جدا. فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كل تخومها من أبن سنتين فما دون بحسب الزمان الذي تحقّقه من المجوس. حينئذ تمّ ما قبل بإرميا النبي القائل. صوت سُمع في الرّامة نوح وبكاء وعويل كثير. راحيل تبكي على اولادها ولا تريد أن تتعزّى لأنهم ليسوا بموجودين.
لما مات هيرودس إذا ملاك الرب قد ظهر في حلم ليوسف في مصر قائلا. قم وخذ الصبي وامه واذهب الى ارض إسرائيل. لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي. فقام واخذ الصبي وامه وجاء الى ارض إسرائيل. ولكن لما سمع ان ارخيلاوس يملك [أصبح ملكا] على اليهودية عوضا عن [خلفا لـ] هيرودس أبيه خاف ان يذهب الى هناك. واذ أُوحي اليه في حلم انصرف الى نواحي الجليل. وأتي وأسكن في مدينة يقال لها ناصرة. لكي يتم ما قيل بألأنبياء إنه سيُدعى ناصريا (متى 2: 1-23).
إن أول ما يُلاحظ هنا هو أنه بالرغم من أن ذبح الأطفال الذكور وإنقاذ عيسى من القتل كانت ستكون حوادثا رئيسة في حياة السيد المسيح فإنّها لم تُذكر سوى في كتاب مَتّى.أما مرقس ويوحنا فلا يذكران أصلا حادثة ولادة عيسى أساسا، ولذلك لا يمكن إستنتاج شيء من إهمالهما لمذبحة الأطفال المزعومة. إلا ان هذا العذر لا ينطبق على كتاب لوقا الذي يصف بكثير من التفصيل الظروف التي أحاطت بولادة عيسى. كيف يمكن إذن لكتاب من كتب العهد الجديد يتناول بالتفصيل ولادة عيسى أن يهمل تماما ذكر مذبحة هيرودس المزعومة لأطفال بيت لحم التي استهدفت حياة عيسى؟ من الواضح أن مؤلِّف كتاب لوقا لا يمكن ان يكون قد عرف بوقوع هكذا حادثة ثم قرر إهمالها بالكامل وحذف كل إشارة اليها من سيرة عيسى. ومما يستبعد اكثر امكانية حدوث مثل هذا السيناريو هو ان الحادثة المزعومة كانت ستؤكد المكانة الخاصة لعيسى وبالتالي فإن كاتب العهد الجديد كان سيدوّنها بالتأكيد لو علم بوقوعها. إلا أن هذا الإستنتاج الذي من المُحتَّم الوصول اليه والذي يجيب سؤالا واحدا يثير آخر. إن قتل كل الأطفال الذين يقل عمرهم عن سنتين في بيت لحم وما جاورها كان سيكون كارثة رهيبة من المُحتَّم أن تعيش في ذاكرة الناس لقرون، فَلِمَ إذا كان مؤلِّف كتاب لوقا، الذي كتب بتفصيل مسهب عن ولادة عيسى، جاهلا تماما بالمذبحة المزعومة؟ بل مع أنّ الكاتب يدّعي معرفة ويبدي اهتماما بذكر حادثة حصلت قبل ولادة عيسى مباشرة، «وفي تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يُكتَتب كل المسكونة [يتم إحصاء كل سكان الامبراطورية]. وهذا الإكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والي سورية» (لوقا، 2: 1-2)، فإنه، ومن دون تفسير، يبدي جهلا تاما بمذبحة الأطفال الصغار من الذكور. يبدأ كتاب لوقا بما يلي:
إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المُتيقَّنة عندنا كما سلّمها الينا الذين كانوا منذ البدء مُعاينين وخُدّاما للكلمة رأيت أنا أيضا إذ قد تتبعتُ لك كل شيء من الاول بتدقيق أن اكتب على التوالي اليك أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي عُلِّمت به (لوقا، 1: 1-4).
إذا قبلنا إدعاء مؤلِّف كتاب لوقا عن امتلاكه لمعرفة دقيقة عن التاريخ الذي يسرده فليس أمامنا سوى الاستنتاج بأن مذبحة الاطفال الصِغار التي يذكرها مَتّى لم تحدث على الإطلاق.
إن العلم بوقوع كارثة رهيبة مثل مذبحة أطفال بيت لحم وما جاورها ما كان سيتطلّب معرفة تفاصيل ولادة عيسى بالذات ولكن مجرد معلومات عامة عن تاريخ تلك المنطقة في الحقبة المعنيّة. بالرغم من إهمال المؤرخين الرومانيّين لتسجيل تاريخ فلسطين فإن المؤرخ اليهودي جوزيفوس (37-110 ق.م) قام بتدوينه. إذ كتب جوزيفوس بتفصيل عن تاريخ هيرودس الكبير Herod the Great (37-4 ق.م) الذي يزعم العهد الجديد أنه هو الذي أصدر أمر المذبحة. يصف جوزيفوس في كتاباته، التي أصبحت مصدر كل الكتابات اللاحقة عن هيرودس، تاريخ ذلك الملك الذي يشهد على وحشيّته لا مع أعدائه فحسب ولكن حتى مع افراد عائلته، حيث قتل أكبر اولاده وإحدى زوجاته وإبنيهما. إلا ان الامر ذي الدلالة هنا هو خلو تاريخ هيرودس الدموي الذي دوّنه جوزيفوس من أية إشارة الى مذبحة أطفال بيت لحم المذكورة في كتاب مَتّى! من المؤكّد لو أن هذه الحادثة كانت قد حصلت حقاً لَحَظَت بالذكر في سجل تاريخي يروي فيما يرويه من تاريخ هيرودس أفعاله الوحشية. وهكذا نجد مرة أخرى أن الإستنتاج الذي لابد من التوصّل اليه هنا هو أن المذبحة التي يروي مَتّى تفاصيلها لم تقع على الاطلاق. لابد من التأكيد هنا على أن هذا الاستنتاج لا يمثّل شكلا من أشكال الأدلة السلبية، ذلك أن جوزيفوس دوّن تاريخا تفصيليا عن هيرودسليس فيه أي ذكر للمذبحة المزعومة.
قد يُشَكك البعض في موثوقية هذا الإستنتاج لكونه مأخوذ من كتابات جوزيفوس. إذ أن مذبحة هيرودس المزعومة كانت ستعني ضمنيّاً بأن عيسى كان حقا نبي، إن لم يكن المسيح نفسه، وهو أمر لا يقبله اليهود. لذلك، فإن إهمال ذكر هذه المذبحة ليس سوى أمر مُتوقَّع من قبل مُدافِع متحمّس عن الدين اليهودي مثل جوزيفوس. إلا أن هنالك أكثر من سبب لرفض هذا الإعتراض. أولاً، إن ذكر حادثة المذبحة من قبل جوزيفوس كان سيؤكد فقط إعتقاد هيرودس بأن عيسى كان سيشكّل خطرا عليه في المستقبل، ولكنّه ما كان سيبرهن صحة هذا الإعتقاد الذي يقف وراء فعل هيرودس المزعوم. ثانياً، حتى إذا كان ذكر المذبحة سيكون بمثابة تسليم بأن عيسى كان شخصا ذا مكانة روحية خاصّة فإن هناك سبب قوي للقول بأنها كانت ستُذكَرفي كتابات جوزيفوس المتوفّرة اليوم لأن هذه الكتابات تذكر عيسى اساساً وتُسبِغ عليه مختلف أشكال المديح. فكتاب«الحرب اليهودية» The Jewish War لجوزيفوس يلقّب عيسى بـ «صانع المعجزات»، ناسباً إليه عدة أفعال إعجازية، بل ويذهب الى حد القول بأن كلمة «إنسان» قد لا توفيه حقه من الوصف (Josephus, JW: 398‑400)! كما ذكر جوزيفوس بأن عيسى أُقيمَ من بين الأموات في اليوم الثالث بعد صلبه. كما ترد كل هذه التفاصيل بشكل أكثر إختصارا في كتاب آخر من كتب جوزيفوس،«العصور اليهودية القديمة» Jewish Antiquities، الذي يذهب الى حد الإدعاء بأن عيسى كان هو المسيح (Josephus, JA, XVII: 63‑64)! لقد شكَّك النقّاد في أصالة رواية جوزيفوس المزعومة عن عيسى التي بدت لهم أكثر مسيحية من أن يكتبها مؤرخ يهودي. إلا ان هناك مؤرخون آخرون يقبلون أصالة هذه الكتابات بحجة إحتوائها على نقاط لا تتوافق مع التراث المسيحي ولا توحي بأن كاتبها مسيحي ولكن تصوّره كمراقب شاك (Williamson, 1974: 396‑397). إلا أنّ هنالك حُجج قوية أثارها النقّاد ضد أصالة تلك المقاطع المثيرة للجدل. أما حجتهم الرئيسة ضد أصالة رواية كتاب «الحرب اليهودية» فهو وجود ذلك النص في النسخة السلافيّة فقط من الكتاب وغيابه من النسخة الإغريقية. أما الحجج الأنتقادية الرئيسة ضد أصالة نص كتاب «العصور اليهودية القديمة» فهي كما يلي: 1) لا يمكن لمؤرخ يهودي أن يكون قد وصف عيسى بأنه بالمسيح؛ 2) بينما يذكر المطران والمؤرخ يوسيبوس القيساري (توفي حوالي 340 م) هذه المقاطع المثيرة للجدل فقد أشار اللاهوتي الإغريقي أوريغون (تقريبا 185-254 م) بوضوح الى أن جوزيفوس لم يؤمن بأن عيسى هو المسيح؛ 3) وأخيرا، يقطع ذلك المقطع المشكوك في أصالته إنسيابيّة نص يصف فيه جوزيفوس سلسلة من اعمال الشغب (Feldman, 1965: 49). إن معظم الباحثين يرفضون أصالة الفقرات عن عيسى الواردة في كتابي جوزيفوس. من المؤكد أن تلك الاشارات الى عيسى هي غير اصيلة وانها قد زُيِّفت من قبل كُتّاب مسيحيين، إلا ان هذا غير ذي صلة بنقاشنا الحالي. سواء كانت تلك المقاطع عن عيسى في كتابات جوزيفوس أصيلة أم مزورة فإنها تثير السؤال المهم التالي: لماذا لم يُشِر كاتب تلك المقاطع في كتابي جوزيفوس الى المذبحة المزعومة للأطفال التي كان هدفها قتل الطفل عيسى؟ إن الجواب الوحيد هو أن ذلك الكاتب لم يكن على علم بالمذبحة المزعومة. لو كانت هذه الحادثة قد وقعت فعلا لعلم بها ذلك الكاتب ولأشار اليها.
يتفق القرآن تماما مع الاستنتاج الذي يظهر مرارا خلال النقاش أعلاه، حيث لا يذكر كتاب الله إطلاقاً حصول اية مذبحة أستهدفت حياة عيسى حين كان طفلا. يذكر القرآن الكريم بأن النبي عيسى كان صانع معجزات استثنائي، كما يذكر مختلف النعم التي أغدقها الله عليه، والتي لا يرد ذكر بعضها حتى في كتب العهد الجديد كتكلّم عيسى في المهد وخلقه من الطين طيرا حيّا، ولكن لا توجد في القرآن أية إشارة الى المذبحة المذكورة في كتاب مَتّى:
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالاِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الاَكْمَهَ وَالاَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (المَائِدَة: 110).
من المهم ملاحظة ان القرآن العظيم ينص في الآية الكريمة أعلاه على أن الله تدخّل فعلالحماية عيسى، ولكن من بني إسرائيل لا من هيرودس. كما تبيّن الآية أيضا بأن ذلك حصل بعد أن كان عيسى قد بدأ بصنع المعجزات التي أدعى الكافرون بها من بني اسرائيل بأنها كانت سحرا. من الجلي أن هذا يجب ان يكون قد حصل بعد بدء عيسى بدعوته،وهو أمر لابد أن يكون قد حدث بعد وصوله إلى عمر مناسب. في الواقع، كان هروب عيسى الى مصر أحد مظاهر تلك الحماية الإلهية إذ أنها لم تحصل حين كان طفلا صغيرا هاربا من خطر هيرودس، كما يوحي كتاب مَتّى، ولكن عندما كان شابا وأضطر الى الهرب من معاداة بني إسرائيل له، وكما هو في تفسير الشيخ عبد القادر الكيلاني (1989: 92) لهذه الحادثة:
وهكذا اليهود أرادوا أن يقتلوا عيسى ابن مريم، على نبيّنا وعليهما الصلاة والسلام، لأنهم حسدوه لمّا ظهرت الآيات والمعجزات على يده، فأوحى الله عز وجل اليه أن اخرج من بلادهم الى مصر فخرج وهو إبن ثلاث عشرة سنة. أخذه قَرابة له وهرب به فقوي أمره، وانتشر ذكره في تلك البلاد فاجتمعوا (على) أن يُهلكوه فما قدروا وكان الله «غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ» (يوسف: من 21).
وهنا أيضا لا نجد إشارة الى حملة هيرودس المزعومة لذبح الأطفال. مما تجدر ملاحظته أيضا هو أن لوقا يذكر في كتابه بأنّه عندما كان عيسى في الثانية عشرة من عمره جلس في باحة المعبد في القدس مع المعلّمين وأصغى لهم وسألهم أسئلة، وأنهم أُعجِبوا بفهمه ومعرفته (لوقا، 2: 42-47). ربما من الممكن ربط هذه الحادثة بشكل ما بالحسد الذي أكنّه رجال السلطة الدينية من بني إسرائيل لعيسى والذي أدى في النهاية الى هربه الى مصر. ويجدر أن نذكر بشكل سريع أنّ الذي أصحب عيسى الى مصر كان «قرابة له» وليس «خطيب مريم»، إذ يشير القرآن إلى أن مريم لم تتزوج أبدا لأنها كانت منذورة لله (آل عمران: 35-37؛ مريم: 16-17). إن الرواية القرآنيّة لقصة عيسى وأمه مريم لا تحتوي على شخصية ثالثة تقابل شخصية يوسف في العهد الجديد.
ولكن هل وقعنا هنا في فخ الدليل السلبي بنفينا حدوث المذبحة المذكورة في كتاب مَتّى على اساس عدم ذكرها في القرآن؟ إن الإجابة هي بالتأكيد لا لأن هنالك دليل قرآني على أنه لو كانت مذبحة الاطفال الصغار في بيت لحم قد وقعت فعلا فإنها كانت ستُذكَر في كتاب الله. يتمثّل هذا الدليل في ذكر القرآن للخطر الذي تعرّض له موسى عند ولادته، مؤكّدا فضل الله في إنقاذ رسول المستقبل:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ (7). فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8). وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (القَصَص: 9).
فلو كانت مثل هذه الحادثة قد حصلت لعيسى فإن القرآن ما كان سيهمل الإشارة إليها.
بالإضافة الى هذا،هنالك عدد من الآيات الكريمة التي يذكّر فيها الله موسى بفضله عليه،بما في ذلك تدخلّه لإنقاذه من الخطر الذي هدد حياته بعد ولادته مباشرة:
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37). إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38). أَنْ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (طه: 39).
إلا أن الله لا يشير بأي شكل من الأشكال الى حدوث مثل هذا التدخّل في حالة عيسى في الآية 110 من سورة المائدة أعلاه التي يذكِّر الله فيها عيسى بمختلف النِعَم التي اغدقها عليه.
يتمثّل الدليل الآخر على لاتاريخيّة قصة مَتّى عن مذبحة هيرودس لصغار الأطفال من الذكور في بيت لحم في الآيات التالية:
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27). يَا أُخْتَ هَارُون[1]َ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28). فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30). وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31). وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32). وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33). ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (مَرْيَم: 34).
تبيّن هذه الآيات بأن أخبار عيسى، الطفل المعجزة، أنتشرت بين الناس بعد ولادته مباشرة. لذلك، لو كان الملك قد أراد فعلا قتله لأستطاع العثور عليه بسهولة ولما أحتاج إلى قتل كافة الأطفال دون الثانية من العمر، في بيت لحم وما جاورها، ليضمن قتل عيسى.
من الواضح إذن أتّفاق القرآن العظيم والتاريخ المُدوَّن على أن مذبحة الأطفال في بيت لحم وماجاورها التي يذكرها كتاب مَتّى في العهد الجديد لم تحصل أبداً. إلا ان التشابه الصارخ بين المذبحة الخيالية الواردة في كتاب مَتّى والمذبحة الحقيقية التي نفّذها فرعون بقتله الذكور من حديثي الولادة من بني إسرائيل وقت ولادة موسى لابد وأن يقودنا الى إستنتاج واحد وهو ببساطة أن واضع كتاب مَتّى اقتبس قصته الخيالية من قصة مذبحة فرعون الحقيقية. من المرجّح أن مؤلِّف كتاب مَتّى أراد أن يُبيّن أن ما تلقّاه عيسى، نبي النصارى، من عناية إلهية لم يقّل عما تلقّاه موسى، نبي اليهود. إلا أنّمن الصعب جدا فهم مثل هذا الدافع ذلك أن ولادة عيسى كانت بحد ذاتها معجزة، وهي حقيقة يؤكدها كتاب مَتّى نفسه. بالإضافة الى ذلك، فإن ولادة عيسى كانت معجزة فريدة من نوعها وأكبر بكثير من معجزة تدخّل الله لحماية حياة موسى الطفل من القتل.
إن إحدى الحقائق التي أغفلها مخترع قصة المذبحة في كتاب مَتّى عند نقله لأحداث معينة من قصة ولادة موسى وتطبيقها على ولادة عيسى هو أن عيسى الطفل كان يختلف تماما عن موسى الطفل. إن الأخير لم يظهر للناس كطفل يختلف عن باقي الأطفال بشكل خارق للعادة، وهو أمر مكّنه من أن ينشأ في قصر عدوّه نفسه، فرعون،من دون أن يثير شك أحد بأنه يمكن ان يكون الطفل الذي كانوا يريدون قتله. أما الطفل عيسى فقد كان أعجوبة فريدة من نوعها وما كان يمكن لحقيقته ان تُخفى على الناس. لقد خُلق عيسى لكي يُعرَف من قبل الناس ولكي تصل اخبار كونه طفلا معجزة الى كل مكان. إذ انه كان الطفل الذي، من بين ميّزاته، وُلِد من غير أب وكان نبيا منذ ولادته وتكلم في المهد وجرت على يده معجزات عديدة. إن إهمال مؤلف كتاب مَتّى لهذا الاختلاف المهم بين عيسى وموسى في طفولتهما جعله يطبّق قصة المذبحة الحقيقية التي استهدفت موسى على عيسى من غير تحوير بعض التفاصيل التي لا تتّفق مع طفولة عيسى، وبالتالي حمل هذا التطبيق الأخرق دليلا آخر على لاتاريخية القصة المُختَلَقة في كتاب مَتّى وعلى أنها ليست سوى نسخة غير مُتقَنة من قصة موسى الحقيقية.
من الممكن الاعتراض على التفسير اعلاه لأصل قصة مذبحة الأطفال في كتاب مَتّى على أساس أن العهد القديم لم يذكر بأن مذبحة فرعون للذكور من مواليد بني إسرائيل الجدد هدفت إلى إزالة الخطر الذي كان سيشكّله احدهم ولكن إلى السيطرة على الزيادة المستمرة في عدد بني اسرائيل. إلا أننا أشرنا في ما تقدّم الى وجود موروثات تراثية وكتابات يهودية، بضمنها كتب جوزيفوس، تناقض العهد القديم يمكن ان يكون مؤلِّف كتاب مَتّى قد علم منها الدافع الحقيقي لمذبحة فرعون.
هناك نقاط مهمة أخرى تدعم الإستنتاج بأن قصة المذبحة في كتاب مَتّى لاتاريخيّة. أولاً، إن ما تناهى الى علم فرعون عن الولادة الوشيكة لطفل من بني إسرائيل سيتسبّب في هلاكه تبيّنت صحته لاحقا، إذ كان موسى فعلا السبب في وضع حد لحكم وحياة فرعون. على العكس من هذا، إتّضح بأن الادعاءات بأن عيسى كان سيصبح «ملك اليهود» (مَتّى، 2: 2)، وفقا لما جاء على لسان المجوس الثلاثة، و«مدبّر يرعى شعبي اسرائيل» (مَتّى 2: 6)، حسب نبوءة ميخا (5: 2)، والتي جعلت هيرودس يضطرب، هي إدّعاءات غير صحيحة نهائيا. في الواقع، تؤكّد كتب العهد الجديد، بما في ذلك كتاب مَتّى نفسه، بأن عيسى عُومِل بإذلال وإهانة قبل وفاته لإدعائه بأنه «ملك اليهود» (مَتّى، 27: 11؛ مرقس، 15: 2؛ لوقا، 23: 3) وبأنه لم يصبح أبداً «ملك اليهود»، وهي عبارة كتبها الجنود الرومان على صليبه ليسخروا منه. والآن،إن حقيقة أن عيسى لم يصبح أبداً «ملك اليهود» تعني أن قصة المذبحة التي أوردها مَتّى تحمل بين طيّاتها عدم مصداقيّتها. فلو كانت هناك فعلا نبوءة أخبرت بشكل صحيح عن مكان وزمان ولادة عيسى وحددت هويّته، كما مُصوَّر في قصة المجوس، فإن مثل هذه النبوءة الشديدة الدقة ما كانت ستُخطئ في الإدعاء بأن عيسى كان سيصبح «ملك اليهود» كما أعتقد المجوس. إذ ان مثل هذه النبوءة الدقيقة كانت ستبيّن بأن عيسى ما كان سيشكّل أي خطر على الملك، سواء كان هيرودس أوغيره. كانت مثل هذه النبوءة ستخبر بأن الله لم يكن قد كتب لعيسى أن يخلع أي ملك أو يقود اليهود في ثورة أو يشترك في أي شكل من أشكال التمرد ضد السلطات الحاكمة.
ثانياً،ما كان لأية نبوءة تخص مستقبل عيسى لتزعج هيرودس بالذات. لأنّمثل هذه النبوءةكانت ستكشف بأن عيسى كان سيفعل ما فعل في اليهودية في وقت في المستقبل لن تكون فيه تحت حكم هيرودسالذي سيكون قد مات قبل ذلك بزمن طويل. في الحقيقة،إن هيرودسكان مكتوباً له أن يموت في آذار في السنة الرابعة ق.م ولم يكن مُقدَّرا له أن يعيش الى الوقت الذي يكون فيه لعيسى أتباع. للسببين أعلاه، لا يمكن للمرء قبول إدعاء العهد الجديد بأنه كانت هناك نبوءة تخبر بدقة عن حقائق متعددة عن عيسى وفي نفس الوقت تخطئ وتضلّل الناس بالأدعاء بأن عيسى كان سيصبح ملك اليهود.
ثالثا، إن رواية مَتّى عن المذبحة التي أمر بها هيرودستحتوي على عدد من نقاط الضعف. فمثلا يخبرنا مَتّى ان المجوس صدَّقوا هيرودس حين قال لهم «أذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي. ومتى وجدتموه فأخبروني لكي آتي أنا ايضا واسجد له» (مَتّى، 2: 8) وأنهم كانوا سيخبروه عن مكان الطفل لو لم يُأمَروا في المنام بأن لا يفعلوا. ثم يستطرد مَتّى ليقول أن هيرودس علم من «رؤساء الكهنة وكَتَبة الشعب» بأن المسيح سيولد في بيت لحم في اليهودية. ولكن بدلا من إرساله لرجاله للبحث عن الطفل نجد هيرودس يطلب من المجوس أن يعودوا إليه بالاخبار عن الطفل حديث الولادة، معتمدا كليا على استجابتهمطوعيا لطلبه! بالإضافة الى هذا، يبدو من أمر هيرودس بقتل كافة الأطفال الذكور دون الثانية من العمر أنه انتظر وقتا طويلاً قبل أن يتخذ أي أجراء لتسوية قضية كانت لها مثل هذه الأهميّة بالنسبة له! لقد أحتاج هيرودسالى سنتين ليدرك أن المجوس خدعوه ومن ثم ليستشيط غضباً! إن هيرودس الذي يحدّثنا التاريخ عنه هو بالتأكيد أكثر تهوّرا وأقل صبراً من ذلك الذي يصوّره العهد الجديد.
مما يجدر ذكره هو أن قصة ولادة عيسى في العهد الجديد تحمل تشابهات صارخة مع قصة ولادة موسى في العهد القديم. فالدور الذي يلعبه المجوس الثلاثة في كتاب مَتّى شديد الشبه بدور القابلتين في سِفر الخروج. وكما أمر فرعون القابلتينبقتل ذكور بني إسرائيل حديثي الولادة، وهو امر لا يمكن تفسيره إذا اخذنا بنظرا الاعتبار أنهما كانتا من بني إسرائيل، فإن المجوس الذين قدموا لتقديم إحترامهم للنبي عيسى أُمروامن قبل هيرودسبأن يدلّوه على مكانه. ولكن كما فعلت القابلتان، لم ينفّذ المجوس أمر الحاكم القلق. إن الصورة في كتاب مَتّى عن وجود إتصال مباشر بين الملك هيرودس والمجوس الثلاثة تشترك مع قصة العهد القديم عن ولادة موسى في عرضها لأحداث تجري على مقياس صغير أسماه هوتمان بـ «جو القرية»(Houtman, 1993: 188). بعد أخذه لعيسى خارج مصر، أُمِرَ يوسف من قبل ملاك قال له: «قم وخذ الصبي وامه واذهب الى ارض إسرائيل. لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي» (مَتّى، 2: 20). إن هذا أيضاً يذكّر بقوة بتبليغ الرب لموسى «أذهب إرجع لمصر. لأنه قد مات جميع القوم الذين كانوا يطلبون نفسك» (الخروج، 4: 19).
هكذا فإن قصة مَتّى عن قتل هيرودس للذكور من الأطفال الصغار قد نُسِخَت في الحقيقة من قصة أفعال فرعون الوحشية في وقت ولادة موسى. بالرغم من ان قراءة سريعة لقصة مَتّى قد توحي بتماسكها، فإن قراءة مُتمعِّنة لها كفيلة بكشف أنها نسخة منقولة بتصرّف من قصة موسى ولكنها طبعا ليست تاريخيّة بخلاف المصدر الذي نُقلَت عنه. إن ذكر هروب عيسى الى مصر يشير الى أن هنالك أثر من الحقيقة في قصة مَتّى. ولكن بينما يمكن ان تكون بعض التفاصيل في قصة مَتّى عن ولادة عيسى صحيحة، فإن معظم باقي المعلومات التي تتعلّق بهيرودس، وخصوصا أمره المزعوم بقتل الأطفال الذكور، هو من إختراع مؤلِّف كتاب مَتّى. لقد بيّن رانديل هيلمز (Helms, 1989) بأنّ مادة كتاب مَتّى، وفي الواقع باقي كتب العهد الجديد ايضا، قد بُنِيَت على روايات في العهد القديم.
والآن، إذا كانت رواية مَتّى عن الإجراءات التي قام بها هيرودس لمواجهة ولادة عيسى مُختَلَقة، فلِمَ لا يشكّك المرء في مصداقيّة الإدّعاء بأنّ تاريخ ولادة عيسى كان خلال حكم هيرودس اساسا! ولكن مَتّى ليس لوحده هنا، إذ يبدو أن لوقا أيضا يشير ضمنيّاً إلى أن ولادة عيسى حصلت عندما كان هيرودس ملكا على اليهودية. يروي لوقا أن ملاكا ظهر للنبي زكريا، الموصوف بأنه كاهن في عهد هيرودس، ليخبره بأنه سيرزق بولد. إن إبن زكريا المقصود هو النبي يحيى الذي وُلِد قبل ولادة عيسى بقليل. لذلك يمكن الإفتراض بأنّ لوقا أيضا يشير الى أن عيسى ولد عندما كانت اليهودية تحت حكم هيرودس. إلا أن لوقا يفسد سياقه التاريخي هذا بإشارته إلى تعدادٍ لسكان جميع انحاء الأمبراطورية الرومانية وقع عندما كانت مريم حاملا. ثم يستطرد ليقول «وهذا الإكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والي سورية» (لوقا 2: 2). المشكلة هنا هي أنه بينما مات هيرودس في السنة الرابعة ق.م، فإن التعداد الوحيد للسكان خلال حكم كيرينيوس في سوريا كان في عام 6-7 م، أي بعد حوالي عقد من وفاة هيرودس (أنظر الدراسة المفصلة Brown, 1993: 547‑555)! ومن الجدير ملاحظته ايضا هو أنه لما كان هيرودس قد مات في العام الرابع ق.م، فأن إدعاء مَتّى بذبح هيرودس للأطفال الذكور الذين يقل عمرهم عن سنتين يعني ضمنيّاً بأن عيسى لا يمكن أن يكون قد وُلِد قبل العام السادس ق.م. إن هذا يوسّع الفجوة بين تاريخ ولادة عيسى المُتضمَّن في إشارة لوقا الى التعداد وبين تاريخ ما خلال حكم هيرودس.
كما ينص لوقا على أنه لكي يسجّل في التعداد «فصعد يوسف أيضا من الجليل من مدينة الناصرة الى اليهودية الى مدينة داود التي تُدعى بيت لحم لكونه من بيت داود وعشيرته ليُكتَتَب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى» (لوقا، 2: 4-5). إلا أن أحد الاخطاء في هذا النص هو ان تعداد كيرينيوس اعلاه شمل اليهودية فقط وليس الجليل ايضا، وبالتالي فإنه لم يكن هنالك فعلا سببايبرر مغادرة يوسف الجليل وذهابه الى اليهودية (Brown, 1993: 549‑550).
شاهدنا مما تقدّم في هذا القسم بأنّ العهد القديم يدّعي بأن فرعون قام بمذبحة أطفال واحدة خلال حياة موسى بينما الحقيقة هي انه أرتكب مذبحتين، فيما يدّعي العهد الجديد بأن هيرودس ارتكب مذبحة أطفال خلال حياة عيسى بينما الحقيقة هي أنه لم يفعل! إن مؤلّف كتاب مَتّى هو الذي أختلق قصة هذه المذبحة المزعومة التي صاغها على غرار قصة ولادة موسى.
الهوامش
[1] عندما ينسب القرآن الكريم شخصا ما الى قومه فإنه يصف ذلك الشخص بأنه «أخ» او «أخت» ذلك القوم (أنظر مثلاً الشعراء: 106، 124، 142، 161؛ ق: 13). فعبارة «أُخْتَ هَارُون» تعني إمرأة من قوم سُمّوا بإسم هارون ولا تعني إمرأة إسم أخيها هارون كما يسيء البعض الفهم.لقد حدّد المفسِّرون هوية هارون في هذه العبارة القرآنية بأنه النبي هارون، اخو النبي موسى.
رغم أن هذا الكتاب يهتم بشكل رئيس ببعض مراحل تاريخ موسى وبني إسرائيل فإنه ليس بخروج عن موضوع الكتاب أن نناقش أجزاءا معيّنة من رواية العهد الجديد لقصة عيسى، ذلك أن دراسة الروايتين القرآنيتين لولادة موسى وعيسى ومقارنتهما مع نظيرتيهما في العهدين القديم والجديد، على التوالي، يكشف عن إرتباط مهم بين روايتي العهدين القديم والجديد. يبيّن البحث في هذا الموضوع بأن رواية العهد الجديد عن مذبحة هيرودس للأولاد الصغار في بيت لحم وما جاورها من المناطق وتفاصيل أخرى ذات صلة قد نُقِلت في الواقع من قصة ولادة موسى في سِفر الخروج، ولذلك فهي ليست بوقائع تاريخيّة.
يروي كتاب مَتّى في العهد الجديد الأحداث التي حصلت بعد ولادة عيسى مباشرة كما يلي:
ولما وُلِد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودس الملك إذا مجوس من المشرق قد جاءوا الى اورشليم قائلين أين هو المولود ملك اليهود. فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له. فلما سمع هيرودس الملك أضطرب وجيمع اورشليم معه. فجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسألهم أين يولد المسيح. فقالوا له في بيت لحم اليهودية. لأنه هكذا مكتوب بالنبي. وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا. لأن منك يخرج مدبّر يرعى شعبي اسرائيل.
حينئذ دعا هيرودس المجوس سرا وتحقّق منهم زمان النجم الذي ظهر. ثم أرسلهم الى بيت لحم وقال أذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي. ومتى وجدتموه فأخبروني لكي آتي أنا ايضا واسجد له. فلما سمعوا من الملك ذهبوا واذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدّمهم حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي. فلما رأوا النجم فرحوا فرحا عظيما جدا. وأتوا الى البيت ورأوا الصبي مع مريم أمه. فخرّوا وسجدوا له. ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا ذهبا ولبانا ومُرا. ثم إذ أُوحي اليهم في حلم أن لا يرجعوا الى هيرودس أنصرفوا في طريق اخرى إلى كورتهم.
وبعدما انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا قم وخذ الصبي وأمه وأهرب الى مصر وكن هناك حتى اقول لك. لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه. فقام واخذ الصبي وأمه ليلا وانصرف الى مصر. وكان هنالك الى وفاة هيرودس. لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل من مصر دعوت ابني.
حينئذ لما رأى هيرودس أن المجوس سخروا به غضب جدا. فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كل تخومها من أبن سنتين فما دون بحسب الزمان الذي تحقّقه من المجوس. حينئذ تمّ ما قبل بإرميا النبي القائل. صوت سُمع في الرّامة نوح وبكاء وعويل كثير. راحيل تبكي على اولادها ولا تريد أن تتعزّى لأنهم ليسوا بموجودين.
لما مات هيرودس إذا ملاك الرب قد ظهر في حلم ليوسف في مصر قائلا. قم وخذ الصبي وامه واذهب الى ارض إسرائيل. لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي. فقام واخذ الصبي وامه وجاء الى ارض إسرائيل. ولكن لما سمع ان ارخيلاوس يملك [أصبح ملكا] على اليهودية عوضا عن [خلفا لـ] هيرودس أبيه خاف ان يذهب الى هناك. واذ أُوحي اليه في حلم انصرف الى نواحي الجليل. وأتي وأسكن في مدينة يقال لها ناصرة. لكي يتم ما قيل بألأنبياء إنه سيُدعى ناصريا (متى 2: 1-23).
إن أول ما يُلاحظ هنا هو أنه بالرغم من أن ذبح الأطفال الذكور وإنقاذ عيسى من القتل كانت ستكون حوادثا رئيسة في حياة السيد المسيح فإنّها لم تُذكر سوى في كتاب مَتّى.أما مرقس ويوحنا فلا يذكران أصلا حادثة ولادة عيسى أساسا، ولذلك لا يمكن إستنتاج شيء من إهمالهما لمذبحة الأطفال المزعومة. إلا ان هذا العذر لا ينطبق على كتاب لوقا الذي يصف بكثير من التفصيل الظروف التي أحاطت بولادة عيسى. كيف يمكن إذن لكتاب من كتب العهد الجديد يتناول بالتفصيل ولادة عيسى أن يهمل تماما ذكر مذبحة هيرودس المزعومة لأطفال بيت لحم التي استهدفت حياة عيسى؟ من الواضح أن مؤلِّف كتاب لوقا لا يمكن ان يكون قد عرف بوقوع هكذا حادثة ثم قرر إهمالها بالكامل وحذف كل إشارة اليها من سيرة عيسى. ومما يستبعد اكثر امكانية حدوث مثل هذا السيناريو هو ان الحادثة المزعومة كانت ستؤكد المكانة الخاصة لعيسى وبالتالي فإن كاتب العهد الجديد كان سيدوّنها بالتأكيد لو علم بوقوعها. إلا أن هذا الإستنتاج الذي من المُحتَّم الوصول اليه والذي يجيب سؤالا واحدا يثير آخر. إن قتل كل الأطفال الذين يقل عمرهم عن سنتين في بيت لحم وما جاورها كان سيكون كارثة رهيبة من المُحتَّم أن تعيش في ذاكرة الناس لقرون، فَلِمَ إذا كان مؤلِّف كتاب لوقا، الذي كتب بتفصيل مسهب عن ولادة عيسى، جاهلا تماما بالمذبحة المزعومة؟ بل مع أنّ الكاتب يدّعي معرفة ويبدي اهتماما بذكر حادثة حصلت قبل ولادة عيسى مباشرة، «وفي تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يُكتَتب كل المسكونة [يتم إحصاء كل سكان الامبراطورية]. وهذا الإكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والي سورية» (لوقا، 2: 1-2)، فإنه، ومن دون تفسير، يبدي جهلا تاما بمذبحة الأطفال الصغار من الذكور. يبدأ كتاب لوقا بما يلي:
إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المُتيقَّنة عندنا كما سلّمها الينا الذين كانوا منذ البدء مُعاينين وخُدّاما للكلمة رأيت أنا أيضا إذ قد تتبعتُ لك كل شيء من الاول بتدقيق أن اكتب على التوالي اليك أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي عُلِّمت به (لوقا، 1: 1-4).
إذا قبلنا إدعاء مؤلِّف كتاب لوقا عن امتلاكه لمعرفة دقيقة عن التاريخ الذي يسرده فليس أمامنا سوى الاستنتاج بأن مذبحة الاطفال الصِغار التي يذكرها مَتّى لم تحدث على الإطلاق.
إن العلم بوقوع كارثة رهيبة مثل مذبحة أطفال بيت لحم وما جاورها ما كان سيتطلّب معرفة تفاصيل ولادة عيسى بالذات ولكن مجرد معلومات عامة عن تاريخ تلك المنطقة في الحقبة المعنيّة. بالرغم من إهمال المؤرخين الرومانيّين لتسجيل تاريخ فلسطين فإن المؤرخ اليهودي جوزيفوس (37-110 ق.م) قام بتدوينه. إذ كتب جوزيفوس بتفصيل عن تاريخ هيرودس الكبير Herod the Great (37-4 ق.م) الذي يزعم العهد الجديد أنه هو الذي أصدر أمر المذبحة. يصف جوزيفوس في كتاباته، التي أصبحت مصدر كل الكتابات اللاحقة عن هيرودس، تاريخ ذلك الملك الذي يشهد على وحشيّته لا مع أعدائه فحسب ولكن حتى مع افراد عائلته، حيث قتل أكبر اولاده وإحدى زوجاته وإبنيهما. إلا ان الامر ذي الدلالة هنا هو خلو تاريخ هيرودس الدموي الذي دوّنه جوزيفوس من أية إشارة الى مذبحة أطفال بيت لحم المذكورة في كتاب مَتّى! من المؤكّد لو أن هذه الحادثة كانت قد حصلت حقاً لَحَظَت بالذكر في سجل تاريخي يروي فيما يرويه من تاريخ هيرودس أفعاله الوحشية. وهكذا نجد مرة أخرى أن الإستنتاج الذي لابد من التوصّل اليه هنا هو أن المذبحة التي يروي مَتّى تفاصيلها لم تقع على الاطلاق. لابد من التأكيد هنا على أن هذا الاستنتاج لا يمثّل شكلا من أشكال الأدلة السلبية، ذلك أن جوزيفوس دوّن تاريخا تفصيليا عن هيرودسليس فيه أي ذكر للمذبحة المزعومة.
قد يُشَكك البعض في موثوقية هذا الإستنتاج لكونه مأخوذ من كتابات جوزيفوس. إذ أن مذبحة هيرودس المزعومة كانت ستعني ضمنيّاً بأن عيسى كان حقا نبي، إن لم يكن المسيح نفسه، وهو أمر لا يقبله اليهود. لذلك، فإن إهمال ذكر هذه المذبحة ليس سوى أمر مُتوقَّع من قبل مُدافِع متحمّس عن الدين اليهودي مثل جوزيفوس. إلا أن هنالك أكثر من سبب لرفض هذا الإعتراض. أولاً، إن ذكر حادثة المذبحة من قبل جوزيفوس كان سيؤكد فقط إعتقاد هيرودس بأن عيسى كان سيشكّل خطرا عليه في المستقبل، ولكنّه ما كان سيبرهن صحة هذا الإعتقاد الذي يقف وراء فعل هيرودس المزعوم. ثانياً، حتى إذا كان ذكر المذبحة سيكون بمثابة تسليم بأن عيسى كان شخصا ذا مكانة روحية خاصّة فإن هناك سبب قوي للقول بأنها كانت ستُذكَرفي كتابات جوزيفوس المتوفّرة اليوم لأن هذه الكتابات تذكر عيسى اساساً وتُسبِغ عليه مختلف أشكال المديح. فكتاب«الحرب اليهودية» The Jewish War لجوزيفوس يلقّب عيسى بـ «صانع المعجزات»، ناسباً إليه عدة أفعال إعجازية، بل ويذهب الى حد القول بأن كلمة «إنسان» قد لا توفيه حقه من الوصف (Josephus, JW: 398‑400)! كما ذكر جوزيفوس بأن عيسى أُقيمَ من بين الأموات في اليوم الثالث بعد صلبه. كما ترد كل هذه التفاصيل بشكل أكثر إختصارا في كتاب آخر من كتب جوزيفوس،«العصور اليهودية القديمة» Jewish Antiquities، الذي يذهب الى حد الإدعاء بأن عيسى كان هو المسيح (Josephus, JA, XVII: 63‑64)! لقد شكَّك النقّاد في أصالة رواية جوزيفوس المزعومة عن عيسى التي بدت لهم أكثر مسيحية من أن يكتبها مؤرخ يهودي. إلا ان هناك مؤرخون آخرون يقبلون أصالة هذه الكتابات بحجة إحتوائها على نقاط لا تتوافق مع التراث المسيحي ولا توحي بأن كاتبها مسيحي ولكن تصوّره كمراقب شاك (Williamson, 1974: 396‑397). إلا أنّ هنالك حُجج قوية أثارها النقّاد ضد أصالة تلك المقاطع المثيرة للجدل. أما حجتهم الرئيسة ضد أصالة رواية كتاب «الحرب اليهودية» فهو وجود ذلك النص في النسخة السلافيّة فقط من الكتاب وغيابه من النسخة الإغريقية. أما الحجج الأنتقادية الرئيسة ضد أصالة نص كتاب «العصور اليهودية القديمة» فهي كما يلي: 1) لا يمكن لمؤرخ يهودي أن يكون قد وصف عيسى بأنه بالمسيح؛ 2) بينما يذكر المطران والمؤرخ يوسيبوس القيساري (توفي حوالي 340 م) هذه المقاطع المثيرة للجدل فقد أشار اللاهوتي الإغريقي أوريغون (تقريبا 185-254 م) بوضوح الى أن جوزيفوس لم يؤمن بأن عيسى هو المسيح؛ 3) وأخيرا، يقطع ذلك المقطع المشكوك في أصالته إنسيابيّة نص يصف فيه جوزيفوس سلسلة من اعمال الشغب (Feldman, 1965: 49). إن معظم الباحثين يرفضون أصالة الفقرات عن عيسى الواردة في كتابي جوزيفوس. من المؤكد أن تلك الاشارات الى عيسى هي غير اصيلة وانها قد زُيِّفت من قبل كُتّاب مسيحيين، إلا ان هذا غير ذي صلة بنقاشنا الحالي. سواء كانت تلك المقاطع عن عيسى في كتابات جوزيفوس أصيلة أم مزورة فإنها تثير السؤال المهم التالي: لماذا لم يُشِر كاتب تلك المقاطع في كتابي جوزيفوس الى المذبحة المزعومة للأطفال التي كان هدفها قتل الطفل عيسى؟ إن الجواب الوحيد هو أن ذلك الكاتب لم يكن على علم بالمذبحة المزعومة. لو كانت هذه الحادثة قد وقعت فعلا لعلم بها ذلك الكاتب ولأشار اليها.
يتفق القرآن تماما مع الاستنتاج الذي يظهر مرارا خلال النقاش أعلاه، حيث لا يذكر كتاب الله إطلاقاً حصول اية مذبحة أستهدفت حياة عيسى حين كان طفلا. يذكر القرآن الكريم بأن النبي عيسى كان صانع معجزات استثنائي، كما يذكر مختلف النعم التي أغدقها الله عليه، والتي لا يرد ذكر بعضها حتى في كتب العهد الجديد كتكلّم عيسى في المهد وخلقه من الطين طيرا حيّا، ولكن لا توجد في القرآن أية إشارة الى المذبحة المذكورة في كتاب مَتّى:
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالاِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الاَكْمَهَ وَالاَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (المَائِدَة: 110).
من المهم ملاحظة ان القرآن العظيم ينص في الآية الكريمة أعلاه على أن الله تدخّل فعلالحماية عيسى، ولكن من بني إسرائيل لا من هيرودس. كما تبيّن الآية أيضا بأن ذلك حصل بعد أن كان عيسى قد بدأ بصنع المعجزات التي أدعى الكافرون بها من بني اسرائيل بأنها كانت سحرا. من الجلي أن هذا يجب ان يكون قد حصل بعد بدء عيسى بدعوته،وهو أمر لابد أن يكون قد حدث بعد وصوله إلى عمر مناسب. في الواقع، كان هروب عيسى الى مصر أحد مظاهر تلك الحماية الإلهية إذ أنها لم تحصل حين كان طفلا صغيرا هاربا من خطر هيرودس، كما يوحي كتاب مَتّى، ولكن عندما كان شابا وأضطر الى الهرب من معاداة بني إسرائيل له، وكما هو في تفسير الشيخ عبد القادر الكيلاني (1989: 92) لهذه الحادثة:
وهكذا اليهود أرادوا أن يقتلوا عيسى ابن مريم، على نبيّنا وعليهما الصلاة والسلام، لأنهم حسدوه لمّا ظهرت الآيات والمعجزات على يده، فأوحى الله عز وجل اليه أن اخرج من بلادهم الى مصر فخرج وهو إبن ثلاث عشرة سنة. أخذه قَرابة له وهرب به فقوي أمره، وانتشر ذكره في تلك البلاد فاجتمعوا (على) أن يُهلكوه فما قدروا وكان الله «غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ» (يوسف: من 21).
وهنا أيضا لا نجد إشارة الى حملة هيرودس المزعومة لذبح الأطفال. مما تجدر ملاحظته أيضا هو أن لوقا يذكر في كتابه بأنّه عندما كان عيسى في الثانية عشرة من عمره جلس في باحة المعبد في القدس مع المعلّمين وأصغى لهم وسألهم أسئلة، وأنهم أُعجِبوا بفهمه ومعرفته (لوقا، 2: 42-47). ربما من الممكن ربط هذه الحادثة بشكل ما بالحسد الذي أكنّه رجال السلطة الدينية من بني إسرائيل لعيسى والذي أدى في النهاية الى هربه الى مصر. ويجدر أن نذكر بشكل سريع أنّ الذي أصحب عيسى الى مصر كان «قرابة له» وليس «خطيب مريم»، إذ يشير القرآن إلى أن مريم لم تتزوج أبدا لأنها كانت منذورة لله (آل عمران: 35-37؛ مريم: 16-17). إن الرواية القرآنيّة لقصة عيسى وأمه مريم لا تحتوي على شخصية ثالثة تقابل شخصية يوسف في العهد الجديد.
ولكن هل وقعنا هنا في فخ الدليل السلبي بنفينا حدوث المذبحة المذكورة في كتاب مَتّى على اساس عدم ذكرها في القرآن؟ إن الإجابة هي بالتأكيد لا لأن هنالك دليل قرآني على أنه لو كانت مذبحة الاطفال الصغار في بيت لحم قد وقعت فعلا فإنها كانت ستُذكَر في كتاب الله. يتمثّل هذا الدليل في ذكر القرآن للخطر الذي تعرّض له موسى عند ولادته، مؤكّدا فضل الله في إنقاذ رسول المستقبل:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ (7). فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8). وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (القَصَص: 9).
فلو كانت مثل هذه الحادثة قد حصلت لعيسى فإن القرآن ما كان سيهمل الإشارة إليها.
بالإضافة الى هذا،هنالك عدد من الآيات الكريمة التي يذكّر فيها الله موسى بفضله عليه،بما في ذلك تدخلّه لإنقاذه من الخطر الذي هدد حياته بعد ولادته مباشرة:
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37). إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38). أَنْ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (طه: 39).
إلا أن الله لا يشير بأي شكل من الأشكال الى حدوث مثل هذا التدخّل في حالة عيسى في الآية 110 من سورة المائدة أعلاه التي يذكِّر الله فيها عيسى بمختلف النِعَم التي اغدقها عليه.
يتمثّل الدليل الآخر على لاتاريخيّة قصة مَتّى عن مذبحة هيرودس لصغار الأطفال من الذكور في بيت لحم في الآيات التالية:
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27). يَا أُخْتَ هَارُون[1]َ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28). فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30). وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31). وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32). وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33). ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (مَرْيَم: 34).
تبيّن هذه الآيات بأن أخبار عيسى، الطفل المعجزة، أنتشرت بين الناس بعد ولادته مباشرة. لذلك، لو كان الملك قد أراد فعلا قتله لأستطاع العثور عليه بسهولة ولما أحتاج إلى قتل كافة الأطفال دون الثانية من العمر، في بيت لحم وما جاورها، ليضمن قتل عيسى.
من الواضح إذن أتّفاق القرآن العظيم والتاريخ المُدوَّن على أن مذبحة الأطفال في بيت لحم وماجاورها التي يذكرها كتاب مَتّى في العهد الجديد لم تحصل أبداً. إلا ان التشابه الصارخ بين المذبحة الخيالية الواردة في كتاب مَتّى والمذبحة الحقيقية التي نفّذها فرعون بقتله الذكور من حديثي الولادة من بني إسرائيل وقت ولادة موسى لابد وأن يقودنا الى إستنتاج واحد وهو ببساطة أن واضع كتاب مَتّى اقتبس قصته الخيالية من قصة مذبحة فرعون الحقيقية. من المرجّح أن مؤلِّف كتاب مَتّى أراد أن يُبيّن أن ما تلقّاه عيسى، نبي النصارى، من عناية إلهية لم يقّل عما تلقّاه موسى، نبي اليهود. إلا أنّمن الصعب جدا فهم مثل هذا الدافع ذلك أن ولادة عيسى كانت بحد ذاتها معجزة، وهي حقيقة يؤكدها كتاب مَتّى نفسه. بالإضافة الى ذلك، فإن ولادة عيسى كانت معجزة فريدة من نوعها وأكبر بكثير من معجزة تدخّل الله لحماية حياة موسى الطفل من القتل.
إن إحدى الحقائق التي أغفلها مخترع قصة المذبحة في كتاب مَتّى عند نقله لأحداث معينة من قصة ولادة موسى وتطبيقها على ولادة عيسى هو أن عيسى الطفل كان يختلف تماما عن موسى الطفل. إن الأخير لم يظهر للناس كطفل يختلف عن باقي الأطفال بشكل خارق للعادة، وهو أمر مكّنه من أن ينشأ في قصر عدوّه نفسه، فرعون،من دون أن يثير شك أحد بأنه يمكن ان يكون الطفل الذي كانوا يريدون قتله. أما الطفل عيسى فقد كان أعجوبة فريدة من نوعها وما كان يمكن لحقيقته ان تُخفى على الناس. لقد خُلق عيسى لكي يُعرَف من قبل الناس ولكي تصل اخبار كونه طفلا معجزة الى كل مكان. إذ انه كان الطفل الذي، من بين ميّزاته، وُلِد من غير أب وكان نبيا منذ ولادته وتكلم في المهد وجرت على يده معجزات عديدة. إن إهمال مؤلف كتاب مَتّى لهذا الاختلاف المهم بين عيسى وموسى في طفولتهما جعله يطبّق قصة المذبحة الحقيقية التي استهدفت موسى على عيسى من غير تحوير بعض التفاصيل التي لا تتّفق مع طفولة عيسى، وبالتالي حمل هذا التطبيق الأخرق دليلا آخر على لاتاريخية القصة المُختَلَقة في كتاب مَتّى وعلى أنها ليست سوى نسخة غير مُتقَنة من قصة موسى الحقيقية.
من الممكن الاعتراض على التفسير اعلاه لأصل قصة مذبحة الأطفال في كتاب مَتّى على أساس أن العهد القديم لم يذكر بأن مذبحة فرعون للذكور من مواليد بني إسرائيل الجدد هدفت إلى إزالة الخطر الذي كان سيشكّله احدهم ولكن إلى السيطرة على الزيادة المستمرة في عدد بني اسرائيل. إلا أننا أشرنا في ما تقدّم الى وجود موروثات تراثية وكتابات يهودية، بضمنها كتب جوزيفوس، تناقض العهد القديم يمكن ان يكون مؤلِّف كتاب مَتّى قد علم منها الدافع الحقيقي لمذبحة فرعون.
هناك نقاط مهمة أخرى تدعم الإستنتاج بأن قصة المذبحة في كتاب مَتّى لاتاريخيّة. أولاً، إن ما تناهى الى علم فرعون عن الولادة الوشيكة لطفل من بني إسرائيل سيتسبّب في هلاكه تبيّنت صحته لاحقا، إذ كان موسى فعلا السبب في وضع حد لحكم وحياة فرعون. على العكس من هذا، إتّضح بأن الادعاءات بأن عيسى كان سيصبح «ملك اليهود» (مَتّى، 2: 2)، وفقا لما جاء على لسان المجوس الثلاثة، و«مدبّر يرعى شعبي اسرائيل» (مَتّى 2: 6)، حسب نبوءة ميخا (5: 2)، والتي جعلت هيرودس يضطرب، هي إدّعاءات غير صحيحة نهائيا. في الواقع، تؤكّد كتب العهد الجديد، بما في ذلك كتاب مَتّى نفسه، بأن عيسى عُومِل بإذلال وإهانة قبل وفاته لإدعائه بأنه «ملك اليهود» (مَتّى، 27: 11؛ مرقس، 15: 2؛ لوقا، 23: 3) وبأنه لم يصبح أبداً «ملك اليهود»، وهي عبارة كتبها الجنود الرومان على صليبه ليسخروا منه. والآن،إن حقيقة أن عيسى لم يصبح أبداً «ملك اليهود» تعني أن قصة المذبحة التي أوردها مَتّى تحمل بين طيّاتها عدم مصداقيّتها. فلو كانت هناك فعلا نبوءة أخبرت بشكل صحيح عن مكان وزمان ولادة عيسى وحددت هويّته، كما مُصوَّر في قصة المجوس، فإن مثل هذه النبوءة الشديدة الدقة ما كانت ستُخطئ في الإدعاء بأن عيسى كان سيصبح «ملك اليهود» كما أعتقد المجوس. إذ ان مثل هذه النبوءة الدقيقة كانت ستبيّن بأن عيسى ما كان سيشكّل أي خطر على الملك، سواء كان هيرودس أوغيره. كانت مثل هذه النبوءة ستخبر بأن الله لم يكن قد كتب لعيسى أن يخلع أي ملك أو يقود اليهود في ثورة أو يشترك في أي شكل من أشكال التمرد ضد السلطات الحاكمة.
ثانياً،ما كان لأية نبوءة تخص مستقبل عيسى لتزعج هيرودس بالذات. لأنّمثل هذه النبوءةكانت ستكشف بأن عيسى كان سيفعل ما فعل في اليهودية في وقت في المستقبل لن تكون فيه تحت حكم هيرودسالذي سيكون قد مات قبل ذلك بزمن طويل. في الحقيقة،إن هيرودسكان مكتوباً له أن يموت في آذار في السنة الرابعة ق.م ولم يكن مُقدَّرا له أن يعيش الى الوقت الذي يكون فيه لعيسى أتباع. للسببين أعلاه، لا يمكن للمرء قبول إدعاء العهد الجديد بأنه كانت هناك نبوءة تخبر بدقة عن حقائق متعددة عن عيسى وفي نفس الوقت تخطئ وتضلّل الناس بالأدعاء بأن عيسى كان سيصبح ملك اليهود.
ثالثا، إن رواية مَتّى عن المذبحة التي أمر بها هيرودستحتوي على عدد من نقاط الضعف. فمثلا يخبرنا مَتّى ان المجوس صدَّقوا هيرودس حين قال لهم «أذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي. ومتى وجدتموه فأخبروني لكي آتي أنا ايضا واسجد له» (مَتّى، 2: 8) وأنهم كانوا سيخبروه عن مكان الطفل لو لم يُأمَروا في المنام بأن لا يفعلوا. ثم يستطرد مَتّى ليقول أن هيرودس علم من «رؤساء الكهنة وكَتَبة الشعب» بأن المسيح سيولد في بيت لحم في اليهودية. ولكن بدلا من إرساله لرجاله للبحث عن الطفل نجد هيرودس يطلب من المجوس أن يعودوا إليه بالاخبار عن الطفل حديث الولادة، معتمدا كليا على استجابتهمطوعيا لطلبه! بالإضافة الى هذا، يبدو من أمر هيرودس بقتل كافة الأطفال الذكور دون الثانية من العمر أنه انتظر وقتا طويلاً قبل أن يتخذ أي أجراء لتسوية قضية كانت لها مثل هذه الأهميّة بالنسبة له! لقد أحتاج هيرودسالى سنتين ليدرك أن المجوس خدعوه ومن ثم ليستشيط غضباً! إن هيرودس الذي يحدّثنا التاريخ عنه هو بالتأكيد أكثر تهوّرا وأقل صبراً من ذلك الذي يصوّره العهد الجديد.
مما يجدر ذكره هو أن قصة ولادة عيسى في العهد الجديد تحمل تشابهات صارخة مع قصة ولادة موسى في العهد القديم. فالدور الذي يلعبه المجوس الثلاثة في كتاب مَتّى شديد الشبه بدور القابلتين في سِفر الخروج. وكما أمر فرعون القابلتينبقتل ذكور بني إسرائيل حديثي الولادة، وهو امر لا يمكن تفسيره إذا اخذنا بنظرا الاعتبار أنهما كانتا من بني إسرائيل، فإن المجوس الذين قدموا لتقديم إحترامهم للنبي عيسى أُمروامن قبل هيرودسبأن يدلّوه على مكانه. ولكن كما فعلت القابلتان، لم ينفّذ المجوس أمر الحاكم القلق. إن الصورة في كتاب مَتّى عن وجود إتصال مباشر بين الملك هيرودس والمجوس الثلاثة تشترك مع قصة العهد القديم عن ولادة موسى في عرضها لأحداث تجري على مقياس صغير أسماه هوتمان بـ «جو القرية»(Houtman, 1993: 188). بعد أخذه لعيسى خارج مصر، أُمِرَ يوسف من قبل ملاك قال له: «قم وخذ الصبي وامه واذهب الى ارض إسرائيل. لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي» (مَتّى، 2: 20). إن هذا أيضاً يذكّر بقوة بتبليغ الرب لموسى «أذهب إرجع لمصر. لأنه قد مات جميع القوم الذين كانوا يطلبون نفسك» (الخروج، 4: 19).
هكذا فإن قصة مَتّى عن قتل هيرودس للذكور من الأطفال الصغار قد نُسِخَت في الحقيقة من قصة أفعال فرعون الوحشية في وقت ولادة موسى. بالرغم من ان قراءة سريعة لقصة مَتّى قد توحي بتماسكها، فإن قراءة مُتمعِّنة لها كفيلة بكشف أنها نسخة منقولة بتصرّف من قصة موسى ولكنها طبعا ليست تاريخيّة بخلاف المصدر الذي نُقلَت عنه. إن ذكر هروب عيسى الى مصر يشير الى أن هنالك أثر من الحقيقة في قصة مَتّى. ولكن بينما يمكن ان تكون بعض التفاصيل في قصة مَتّى عن ولادة عيسى صحيحة، فإن معظم باقي المعلومات التي تتعلّق بهيرودس، وخصوصا أمره المزعوم بقتل الأطفال الذكور، هو من إختراع مؤلِّف كتاب مَتّى. لقد بيّن رانديل هيلمز (Helms, 1989) بأنّ مادة كتاب مَتّى، وفي الواقع باقي كتب العهد الجديد ايضا، قد بُنِيَت على روايات في العهد القديم.
والآن، إذا كانت رواية مَتّى عن الإجراءات التي قام بها هيرودس لمواجهة ولادة عيسى مُختَلَقة، فلِمَ لا يشكّك المرء في مصداقيّة الإدّعاء بأنّ تاريخ ولادة عيسى كان خلال حكم هيرودس اساسا! ولكن مَتّى ليس لوحده هنا، إذ يبدو أن لوقا أيضا يشير ضمنيّاً إلى أن ولادة عيسى حصلت عندما كان هيرودس ملكا على اليهودية. يروي لوقا أن ملاكا ظهر للنبي زكريا، الموصوف بأنه كاهن في عهد هيرودس، ليخبره بأنه سيرزق بولد. إن إبن زكريا المقصود هو النبي يحيى الذي وُلِد قبل ولادة عيسى بقليل. لذلك يمكن الإفتراض بأنّ لوقا أيضا يشير الى أن عيسى ولد عندما كانت اليهودية تحت حكم هيرودس. إلا أن لوقا يفسد سياقه التاريخي هذا بإشارته إلى تعدادٍ لسكان جميع انحاء الأمبراطورية الرومانية وقع عندما كانت مريم حاملا. ثم يستطرد ليقول «وهذا الإكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والي سورية» (لوقا 2: 2). المشكلة هنا هي أنه بينما مات هيرودس في السنة الرابعة ق.م، فإن التعداد الوحيد للسكان خلال حكم كيرينيوس في سوريا كان في عام 6-7 م، أي بعد حوالي عقد من وفاة هيرودس (أنظر الدراسة المفصلة Brown, 1993: 547‑555)! ومن الجدير ملاحظته ايضا هو أنه لما كان هيرودس قد مات في العام الرابع ق.م، فأن إدعاء مَتّى بذبح هيرودس للأطفال الذكور الذين يقل عمرهم عن سنتين يعني ضمنيّاً بأن عيسى لا يمكن أن يكون قد وُلِد قبل العام السادس ق.م. إن هذا يوسّع الفجوة بين تاريخ ولادة عيسى المُتضمَّن في إشارة لوقا الى التعداد وبين تاريخ ما خلال حكم هيرودس.
كما ينص لوقا على أنه لكي يسجّل في التعداد «فصعد يوسف أيضا من الجليل من مدينة الناصرة الى اليهودية الى مدينة داود التي تُدعى بيت لحم لكونه من بيت داود وعشيرته ليُكتَتَب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى» (لوقا، 2: 4-5). إلا أن أحد الاخطاء في هذا النص هو ان تعداد كيرينيوس اعلاه شمل اليهودية فقط وليس الجليل ايضا، وبالتالي فإنه لم يكن هنالك فعلا سببايبرر مغادرة يوسف الجليل وذهابه الى اليهودية (Brown, 1993: 549‑550).
شاهدنا مما تقدّم في هذا القسم بأنّ العهد القديم يدّعي بأن فرعون قام بمذبحة أطفال واحدة خلال حياة موسى بينما الحقيقة هي انه أرتكب مذبحتين، فيما يدّعي العهد الجديد بأن هيرودس ارتكب مذبحة أطفال خلال حياة عيسى بينما الحقيقة هي أنه لم يفعل! إن مؤلّف كتاب مَتّى هو الذي أختلق قصة هذه المذبحة المزعومة التي صاغها على غرار قصة ولادة موسى.
الهوامش
[1] عندما ينسب القرآن الكريم شخصا ما الى قومه فإنه يصف ذلك الشخص بأنه «أخ» او «أخت» ذلك القوم (أنظر مثلاً الشعراء: 106، 124، 142، 161؛ ق: 13). فعبارة «أُخْتَ هَارُون» تعني إمرأة من قوم سُمّوا بإسم هارون ولا تعني إمرأة إسم أخيها هارون كما يسيء البعض الفهم.لقد حدّد المفسِّرون هوية هارون في هذه العبارة القرآنية بأنه النبي هارون، اخو النبي موسى.
0 comments:
إرسال تعليق